ابو بكر شيبون يكتب

مقال يستحق القراءة..... بقلم ابوبكر شيبون

عرض المقال سيرة الراحل ابو رنات....وبالطبع نال في بعض الفقرات منه لمحات من سيرة العم الفاضل احمد متولي العتباني ..كاول نائب عام ومؤسس. لوزارة العدل بعد الاستقلال...انهم فعلاّ رجال شوامخ وعمالقة....

محمد أحمد أبورنات
أول رئيس قضاء سوداني .. (1902 - 1979م) ..!

قانوني مخضرم إنضم للسلك القضائي في العهد الإستعماري وترقى ليقوده في فترة السودنة وبواكير عهد الإستقلال، أسهم بشكل كبير في صياغة القوانين السودانية و توثيق العرف القانوني السوداني، شكلت أحكامه كثيراً من السوابق القضائية السودانية الباكرة.

ولد محمد احمد أبورنات في الأول من يناير عام 1902م بحي العمدة ابورنات بمدينة النهود بشمال كردفان (وهو نفس الحي الذي ولد فيه الشاعرين الكبيرين الدكتور تاج السر الحسن وشقيقه الشاعر مولانا اللواء الحسين الحسن)، واصول ابورنات ترجع الي قبيلة الشايقية، تلقى تعليمه قبل الثانوي بكلية غوردون بالخرطوم في الفترة من 1917 حتى 1920 ثم واصل فيها تعليمه الثانوي، واجتاز الامتحانات النهائية في قسم المترجمين بعد إكمال السنة الرابعة وانضم إلى خدمة حكومة السودان في وظيفة مترجم في 4 يناير سنة 1925 وعين في مدينة الأبيض، حيث عمل بها لمدة أربع سنوات ونصف ثم نقل إلى مديرية بحر الغزال في 16 يوليو 1929م ومنها إلى قسم الري في مدينة سنار في الأول من أكتوبر 1931م.

اضافة الي عمله، درس القانون لمدة أربعة أعوام في مدرسة لندن عن طريق المراسلة، ولم يكن ذلك كفاياً ليكون مؤهل دون الجلوس لامتحان القانون الذي يتطلب السفر الي لندن التي حالت ظروفه دون ذلك، إلا أن تعيين بعض الكتاب في وظيفة قاضي جزئي دون مؤهلات قانونية دعاه للتقدم للوظيفة مع الإشارة لشهادته بالمراسلة.

كتب أبو رنات إلى كبير المهندسين في ود مدني في 29 مارس 1933م مركزاً على موضوع نقله من قسم الري في سنار إلى القسم القضائي في الخرطوم:

(أنا مهتم بالقانون الإنجليزي و تلقيت فيه مقرراً عن طريق المراسلة، واجتزت الامتحانات بعد إكمال خمس سنوات من الدراسة، وحصلت على شهادة الإكمال المرفقة في مواد القانون الروماني والقانون الدستوري والقانون الجنائي و الإجراءات. وعليه ألتمس كريم تفضلكم بإحالة هذه الشهادة إلى السكرتير القضائي بواسطة السكرتير المدني للتكرم بالإطلاع عليها    والتعليق بما يراه مناسباً.
قد لا تحصل هذه الشهادة على اعتراف الحكومة، ولكن تعيين بعض الموظفين السودانيين قضاة جزئيين شجعني على تقديم هذا الطلب بالاحترام اللازم.)

أحيل هذا الخطاب بواسطة أ.م ديزني ‪A.M.Disney‬ من مكتب السكرتير المدني إلى السكرتير القضائي في 11 أبريل 1933م مع التعليق الآتي: أحس أنه يجب تنبيهكم لهذا الجهد الهميم في التعلم الذاتي والذي ربما يكون ملائماً لقسمكم في المستقبل.
رد السكرتير القضائي ب. هـ .بيل ‪B.H.Bell‬ بسرعة على السكرتير المدني في 4 أبريل 1933:
( إن الخبرة العملية في المحاكم المدنية وفي تسجيلات الأراضي ضرورية إن رغب في تحسين فرصته في المنافسة ليكون قاضياً جزئياً.و إذا رغب في الانتقال لهذا القسم في وظيفة كاتب فأسعد بذلك إذا شغرت وظيفة، ولكن يجب أن يكون مفهوماً في هذه الحالة عدم الالتزام بترقيتة لعدة سنوات. أما الحصول على الخبرة كمساعد مأمور خيار متوفر.)

برهن خطاب بيل ‪Bell‬ أنه نقطة تحول في حياة أبي رنات العملية، فخلال أقل من أسبوعين عبر عن رغبته في الانتقال إلى القسم القضائي في وظيفة كاتب في حالة خلوها ..

بعد عدد من المخاطبات انتقل ابورنات في الأول من أغسطس 1933 للعمل ككاتب في القسم القضائي في الخرطوم وفي 18 سبتمبر من نفس العام نقل إلى تسجيلات الأراضي، وألحق بعدها بمدرسة الخرطوم للقانون لتلقي تعليم نظامي لمدة عامين ضمن دفعة ضمت سبعة من الموظفين الحكوميين:
1. أحمد متولي العتباني، محاسب، مديرية النيل الأزرق (لاحقاً أول نائب عام سوداني قام بإنشاء وزارة العدل و تقسيم الوزارات المختلفة عند الإستقلال).
2. محمد أحمد محجوب، مخطط، قسم الأشغال العامة (لاحقاً رئيس وزراء السودان).
3. محمد إبراهيم النور ، كاتب قضائي، القسم القضائي.
4. محمد أحمد أبورنات ، كاتب قضائي، القسم القضائي.
5. م. ع. حسيب، قاضي شرعي، القسم القضائي.
6. محمد يوسف هاشم، قاضي شرعي، القسم القضائي.
7. إبراهيم سيد أحمد المفتي.

عين عتباني والمحجوب والنور وحسيب وأبورنات قضاة جزئيين من الدرجة الثانية بعد نجاحهم في الامتحانات النهائية، وبدأ أبورنات عمله في الحصاحيصا في أول نوفمبر 1938م.

في الأول من أغسطس 1942م نقل أبورنات من الحصاحيصا إلى كوستي، وفي الأول من نوفمبر 1944م رقي العتباني والمحجوب وأبورنات إلى قضاة جزئيين من الدرجة الأولى، وفي نفس التاريخ نقل أبورنات إلى المحكمة العليا في الخرطوم.

تمت في هذه الأثناء عدة محاولات لإرسال العتباني وأبي رنات إلى جامعة لندن للحصول على درجة بكالوريوس القانون لكن لم تكن لهم مؤهلات الدخول للجامعة، وقد بذلت عدة محاولات لاستثنائهم دون جدوى.

عين أبورنات قاضياً بالمحكمة العليا بالإنابة في 30يونيو 1949 خلال غياب القاضي هايس Hayes في إجازة، وفي 23 أغسطس 1949م سافر إلى انجلترا في معية النور وحسيب لدراسة مقرر لمدة أربعة أشهر، منضمين إلى عتباني والذي سبقهم إلى هناك بغرض إجراء بعض الفحوص الطبية، واستغل فرصة وجوده في انجلترا لدراسة نفس المقرر، وبقيت البعثة في لندن لمدة ثمانية أشهر كانوا يزورون خلالها المحاكم بالنهار ويحضرون دروس القانون في المساء في كينجس كوليج بلندن، وقد تلقوا من بروفيسور قرافيسون Graveson مقرراً كاملاً في القانون الدولي الخاص بينما حاضرهم فيتزقيرالد Fitzgerald في القانون الدستوري للإمبراطورية البريطانية.

بمجرد عودته من انجلترا كانت تنتظر أبورنات أخبار سارة، فقد أصدر السكرتير القضائي في 11 أبريل 1950م النشرة التالية: (محمد أحمد أفندي أبورنات هو الثالث في ترتيب الأسبقية للقضاة الجزئيين والموظفين القضائيين السودانيين في درجة CSI من القسم الأول، وسيعين بالتأكيد في وظيفة قاضي محكمة عليا ويكون أول قاضي سوداني مؤهل من كل الجوانب لشغلها، حيث يتمتع بما هو مطلوب من العمق والدقة في المعرفة القانونية وببديهة ممتازة وبمزاج وسلوك قضائي.)، وفي 15 مايو 1950م عين الحاكم العام أبو رنات قاضياً بالمحكمة العليا، وبعد اربع سنوات اختير أول رئيس قضاء سوداني.

حتى منتصف الستينيات كانت اللغة الإنجليزية هي لغة المحاكم المدنية والجنائية في السودان، وكانت العربية لغة المحاكم الشرعية، وكان أبو رنات يتقن الإنجليزية أيما إتقان، ومن قرأ أحكامه تعتريه متعة ذهنية فائقة، كانت سلطة تأييد أحكام الإعدام ضمن اختصاصات رئيس القضاء وليست للحاكم أو رئيس الدولة كما هو الحال الان في كثير من الدول، وفي تلك القضايا كان ابورنات يبدأ بعبارة THIS IS A HANGING CASE أي (هذه قضية شنق) ثم يسترسل في حيثياته بلغة رصينة وجمل قصيرة ومفهومة وعبارات منتقاة .. وبما أن القانون الإنجليزي يشمل كثيراً من العبارات والقواعد باللغة الفرنسية فلقد أهتم أبورنات بدراستها، وكان من القلائل الذين يتقوننها في السودان، ذلك أنه يجنح بطبعه إلى التعمق في تحليل مبادئ القانون وسبر أغوارها.

باشر محمد أحمد أبورنات عمله رئيساً للقضاء السوداني في 21 سبتمبر 1955 بعد عشرين عاماً منذ أن بدأ عمله كاتباً في القسم القضائي وبعد خمسة وعشرين عاماً منذ انضمامه للخدمة المدنية في وظيفة مترجم. أما منافسه عتباني فقد عين أول نائب عام سوداني و تولى إنشاء وزارة العدل.

تولى أبورنات رئاسة القضاء السوداني في فترة التكوين الأول للقانون السوداني، وقد ثبت أنها لم تكن مهمة سهلة إذا ما وضعنا في الاعتبار عدم الانضباط وعدم التناسق الذي لازم القانون في ذلك الوقت .. كان رحمه الله يمتاز بالذكاء الفطري والحنكة والدهاء الخارق، وكان مثقفاً وعالماً فقيهاً، وكان نشطاً يجوب كل اقاليم السودان وقام بإنشاء الكثير من دور المحاكم في مدن السودان المختلفة وتأسيس المحاكم، وارساء القواعد القانونية التي لم يتطرق لها الدستور او ينص عليها القانون مستنداً علي الاعراف والخيرة والاجتهاد والامانة والوجدان السليم، وكان مرجعاً قانونيا الي يومنا هذا.

ولقد ذاع صيت أبورنات كعالم قانوني في المجال الدولي فاختير عضواً في بعض لجان الأمم المتحدة القانونية وممثلاً للأمين العام للمنظمة في بعض الدول الأفريقية .

كما اختير مولانا أبورنات مقرراً للجنة حقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، ومقرها في جنيف (المقر السابق لعصبة الأمم)، وكان مكلفاً بكتابة تقرير عن القوانين الجنائية في البلاد الأفريقية الناطقة باللغة الإنجليزية، وحرص علي ان يكتب كل كلمة في التقرير بنفسه، ولم يكلف السكرتارية كما هو متبع، ما جعله محل احترام وتقدير وإشادة من جميع أعضاء لجنة حقوق الانسان والامين العام.

تم اختيار مولانا ابورنات ممثلا للامين العام للأمم المتحدة وعضواً في هيئة محاربة الاستعمار التابعة للمنظمة الدولية، وفي العام 1973م اختير رئيساً للجنة الأستئنافات المدنية بالأمم المتحدة وظل رئيساً لها الي ان توفاه الله.

إمتد إسهام هذا القاضي في خدمة المجتمع لمدة تزيد عن نصف قرن من الزمان، وفي أكتوبر 1964م قدم استقالته ثم عدل عنها وتقاعد، وبعد فترة وجيزة غيب الموت اول رئيس قضاء سوداني وإنتقلت نفسه إلى جوار ربها راضية مرضية عام 1979م، وظل اسمه حتي يومنا هذا محفوراً بأحرف من نور في صحيفة القضاء السوداني ومرجعاً هاماً في أضابير المحاكم.

رحم الله رئيس القضاء الأسبق مولانا محمد احمد أبورنات واسكنه فسيح جناته ..!

أبوبكر شيبون ..
جدة 28 أكتوبر 2016م
.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سيرة ذاتية مختلفة عن الدكتورة مريم الصادق المهدي

سيرة ذاتية للاعلامية نيكول تنورى

الصاج لعمل الكسرة السودانية