من صفحة صور السودان القديمة ، نأخذ سيرة السيد محمد أحمد ابورنات كبير القضاء

محمد أحمد أبو رنات
  ۱۹۰۲- ۱۹۷۷
محمد أحمد أبو رنات سليل بيت من البيوت الشهيرة في أرض الشايقية والحلفايا والنهود.

هاجرت أسرته إلى النهود واشتهد عضـدها هنـالـك ورحلت إلى الصدارة والرئاسة.

تعلم محمد أحمد أبو رنات بكلية غردون وتخرج محاسباً في عام ١٩٢٢وعشق القانون، وعكف على دراسـة قـانـون عـقـوبـات السودان، واهتم بـأحـكـام المحاكم،ثم بدأ يدرس القانون بالمراسلة،فقد سبقه لذلك الأستاذ محمد علي الطيب ونال شهادته من أحدى الجامعات بالمملكة المتحدة في عام 1917م

کما ان السير كريت قد درس القانون بالمراسلة وأصبح سكرتيراً قضائياً في السودان،ولكن الظروف لم تخدم محمد أحمد أبو رنات لأنه صرف سنوات في دراسة اللغة الفرنسية واللغةاللاتينية وفلسفة التشريع، وامتحن الجزء الأول منه،والعمل المكتبي لا يرحم.

رأى رؤساؤه شغفه بالقانون، ولكن عمره لم يساعده ليلتحق بوظيفة في القضاء، كما أن طبيعة عمله كمحاسب لا تؤهله ليصبح قاضياً، فالذين استـطـاعـوا في تلك الفترة أن يلتحقوا بالقضاء عملوا إما في قسم التسجيلات أو في الإدارة وأشهرهم الدرديري محمد عثمان الذي انتقل من التدريس إلى الإدارة ثم القضـاء المـدني، وأحمـد عبـاس من التسجيلات إلى القضاء، وحلمي أبو سمرة من التسجيلات إلى القضاء.

فلما افتتحت غرفة القانون بمكتب السكرتير القضائي نقل أبو رنات إلى تلك الغرفة ثم التحق بمدرسة القانون، فظل يتدرج في سلك القضـاء حتى أصبح كبير القضاة، ثم اختير للعمل في هيئة الأمم في لجانها القانونية.

وهب محمد أحمد أبو رنات حياته للقانون وللدراسة، فقد اهتم بدراسة المجتمع السوداني وعاداته وتقاليده ليطبق القانون ،فجعل القانون في خدمة المجتمع ولم يلجأ للنصوص إذا خالفت طبيعة البيئة، فهو يزن الظروف التي أدت للجريمة، فالجريمة هي نتيجة وليست سبباً يؤدي للعقوبة.

ففي القضية الشهيرة التي حدثت في كوستي عندما قتـل القطار عـدداً من الأبقار فانقض صاحب الأبقار على سائق القطار فقتله .

فالحكم المبدئي صدر على صاحب الأبقـار بالإعدام، فلما استؤنف الأمـر أمام أبي رنات حكم على القاتل بالسجن لأن الأبقار تشكل عند ذلك الراعي خلاصة حياته، فالذي يعتدي على أبقاره يعتدي على حياته ، کما حكم لأهل القتيل بالدية .

إن دراسة ظروف الجريمة ومعرفة طبائع البيئات في السودان جعلت أبـو رنات رجلاً موضوعياً يطوع القانون للأوضاع.

فقد مثل أمامه في أول عمله بالقضـاء نجار اتهم بسرقة أخشاب ومسامير ووضعت له مادة خيانة الأمانة والسرقة، فسأله أبورنات :
كم عدد أطفالك، فقال له النجار : تسعة ومعهم أمي وشقيقتـان وأخ في المدرسة .
وسأله عن مرتبه فقال : ثمانية جنيهات،فحكم عليه أبـو رنات بأن يستقطع ثمن الخشب والمسامير من مرتبه بالتقسيط وينذر ولا يقـدم لمجلس تأديب،واستؤنف الأمر أمام قاض آخر فأيد حكم أبو رنات.

وفي غضون الحركة الوطنية قدم أمـامـه مـوظفون إشتركوا في مظاهرة سياسية وخشي الناس أن يحاكمهم بالسجن الذي يؤدي للفصل، فحكم على كل واحد منهم بغرامة قدرها مرتب يومين، وقال في الحيثيات :

إن المتهمين شبان في مقتبل أعمارهم فالعقوبة بالسجن تؤدي إلى إفساد نظرتهم للحياة والمجتمع

قد يحسون بقيمتهم كمواطنين ويُـزين لهم الناس ذلـك، ولكن بعد فترة سينساهم من وقف معهم فينحرفون،فالعقوبة قد تمت على أنهم خرجوا من مكاتبهم وهم ملتزمون بالعمل وهذه مسؤولية، فالذي لا يحافظ على مسؤوليته لا يكون وطنياً ولا مواطناً صالحاً
،فالمسؤولية هي أساس الوطنية،ولما لم يسببوا أذى أو يقوموا بأعمال تخريب ، بل كانـوا يهتفون لذلك أصدرت المحكمة هذا الحكم عليهم على أن يوقعوا تعهداً أن لا يخرجوا من مكاتبهم ويشتركوا في المظاهرات

لم يعرف أبو رنات بالتساهل، لكنه اشتهر بالحكمة والرزانة، وبثقته الفائقة في دراسة قضاياه،وبحكمه المُدعم بالأسانيد، وبأنه لم يظلم أحداً

لم يتوقف أبو رنات عن التعلم فقد كنت تـراه بعدما تخطى الستين وهو يجلس بين شبان في عمر أحفاده يدرس اللغة الفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي وثابر حتى استطاع أن يقرأ الصحف الفرنسية ويتحدث بالفرنسية ويكتب الفرنسية، وكان قد بدأ دراستها في العشرينات.

إهتم أبـورنات بحقوق الإنسان وعمل في لجنة هيئة الأمم لمحاربة الاستعار ومثل الأمين العام لهيئة الأمم في بعض البلدان الأفريقية.

إن القانون كان هبة في روح أبي رنات، فإذا جلست إليه فإنه لا يستشهد بالمواد والسوابق،بل إنه يفتي في بساطة،وقد اختير في عام 1973 ليكون رئيساً للجنـة
الاستئنافات بالخدمة المدنية فأشاع روح البحث والإنجاز
فكان يدلف إلى مكتبه ويقرأ الشكاوى والالتماسات والعرائض ويصنفهـاويناقشها مع أعضاء اللجنة، حتى إن الشبان الذين كانوا يعملون كموظفين في مكتب الاستئنافات عجبوا بنشاطه وجده .

لا شك أن الذين عاشوا قبل فترة الاستقلال وبعد الاستقلال كانت لهم ميـول سياسية،ولكن ميول أبي رنات لم تنعكس أبدأ في أحكامه کما أن نظرته الخاصة لم تؤثر في أحكامه.

إن تعمقه في دراسة البيئة السودانيةوالعرف السوداني والإهتمام بالإنسان كقيمة هو الذي جعله رائداً من رواد الفكر والحياة في تاريخنا.

رحمه الله رحمه واسعه وأسكنه أعالي الجنان

نقلاً مؤلف المرحوم الأستاذ محجوب عمر باشري رواد الفكر السوداني

عمر ملاسي -الخرطوم فى 23/8/2022

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سيرة ذاتية مختلفة عن الدكتورة مريم الصادق المهدي

سيرة ذاتية للاعلامية نيكول تنورى

الصاج لعمل الكسرة السودانية