قصة قصيرة للكاتب والشاعر ..المبدع..هاشم صديق

حافلة المجانين
هاشم صديق

كانت المركبة تشق طريقها بصعوبة وسط مئات العربات التي اكتظ بها (شارع الجمهورية) ، الجو خانق وحار ، والمركبة مكتظة بالركاب والعرق المنهمر اللزج يغمر الأجساد ، لا هواء يتسلل من نوافذ المركبة،  ولا أمل في انسياب الحركة والمركبة للأمام . ومن فرط الحرارة والكتمة وإزدحام الشارع ، وتبرم الناس وغيظهم ، وتلف الأعصاب ،
تحولت الحافلة إلى ندوة ، مجنونة ، وطريفة وساخنة ، وبأصوات مرتفعة مغتاظة ، اصوات تقول كلمات ليس من بينها رابط واضح ، وأحيانا تقود الكلمات إلى كلمات وجمل أخرى ، ثم تتحول فجأة إلى كلمات وجمل ليس هنالك من علاقة بينها وبين ما سبقها .  بإختصار أصبحت الحافلة الملتهبة السلحافية وكأنها عربة تقل مجموعة من المجانين من مستشفى إلى مستشفى آخر . الصامت الوحيد في هذه المسرحية (العبثية) التي تعبر عن عجز التواصل بالكلمات ، كان شاباً (متخلفاً) ، بادئ العبط ، يجلس هو ووالدته ، سليطة اللسان ، على مقعد خلف مقعد السائق مباشرة
صاحت المرأة بصوت غاضب
- انشاءالله يا يمه ... شيخي أبو جنزير القلقلتوهو – وفضيتو ميدانو ... يسختكم يسويكم قرود.
صاح رجل يرتدي جلباب وعمامة متسخة ، تساقطت أسنانه ، ويمسح وجهه ، بمنديل بشكير بهت لونه ، سيل العرق الغزير
- ياحليل الترماج ... وجنينة الحيوانات ... والبيرة أبو جمل .
- ياجماعة العربية دي ما بتتحرك ؟!... انحنا راكبين حافلة ... ولا أبو القدح ؟!
- جو يكحلوها عموها
عندها وقف رجل صاحب (كرش) كبيرة، أخذ يرقص ويغني
- جو يكحلوها عموها ... جو يعموها كحلوها ... دقّاني شكاني ... وداني القاضي ... بدل يسجني ... قام رقاني ... هوبا هوبا ... هوبا هوبا
فجأة صرخ شاب أصلع بعد أن وقف وكأنه يهتف
- ياجماعة أنا أخوكم العبد الفقير لله ... بقت عندي حساسية من كلمة حركة ... حركة المواصلات ... الحركة الشعبية ... الحركات المسلحة ... حركة الصادر والوارد ... حركة دفاع المريخ ... الحركات الزي دي ... الحركات الزي ديك ...
- الله (يحركك) ياحافلة السجم
عندها خرجت جملة من المرأة سليطة اللسان دون رابط بما سبقه
- تلفزيون السجم والرماد ... بقى ما عندهم كلام غير طهور البنات
- ياحاجه ده موضوع نصت عليهو اتفاقية نيفاشا ... المساواة بين المرأة في الشمال والجنوب
- سجم خشمي ... المساواة ... وصلت هنا ؟!
ارتفع صوت شابة من جنوب السودان ، ولكن خارج الموضوع
- القرنتيه حفرو ليهو حفرة ... رموهو فيهو ... الهكومه جا ينقذو ... قام كتلوهو
- انحنا ذاتنا ... قالوا الأحزاب رمتنا في حفرة ... وجو ينقذونا ... قامو كتلونا
صاح رجل في متوسط العمر
- أمبارح في شارع (الانقاذ) حصل حادث (حركة) ماتو اتنين
- إنتو ياجماعه شفتو الزحمة الجمب كبري المك نمر ؟! ... إنتو الكبري افتتحوهو ... ولا قفلوهو ؟
عندها سالت طفلة امها
- يمه المك نمر ... ده منو ؟
- عثمان دقنه ... يابتي
تضايق رجل من حرارة الجو ... والاختناق داخل الحافلة فصاح
- إنتو الشتا السنه دي مالو زي المافي ؟!.
عندها التفت الشاب المتخلف الصامت الجالس جوار أمه خلف مقعد السائق ورد بصوت أجش عال وهو يمسح (رياله) سالت من جانب فمه بكُم قميصه
- الشتاء قالوا مسكوهو ناس محكمة العدل الدولية ... ودوهو لاهاي
عندها – رغم حرارة الجو والتوتر وتوقف الحركة وعرق الركاب الغزير - إنفجر الركاب جميعهم بضحك متواصل ، ثم أتبعوه بتصفيق حار إستحساناً لطرفة الشاب المتخلف .
نظرت اليه والدته وصاحت
- سجم خشمي ... سجم خشمي يالدلاهه ... جنس الكلام ده جبتو من وين ؟
والتفت السائق نحوه ضاحكاً
- انت مش سامع الناس ديل من قبيل بتكلمو ... ليه إنت ساكت ؟ ... ليه ما اتكلمت زيهم ؟!
رد الشاب المتخلف
ليه أنا مجنون زيهم ... ولا عوييييير؟!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سيرة ذاتية مختلفة عن الدكتورة مريم الصادق المهدي

سيرة ذاتية للاعلامية نيكول تنورى

الصاج لعمل الكسرة السودانية