كتب. الدكتور عمر محمد احمد


الدكتور عمر محمد احمد

* مفاهيم وقيم إسلامية *

                      [ رد المظالم ]

       
                            (١)
لا شكَّ أنَّ الظُّلم مرتعه وخيم، والظُّلم من أقبح المعاصي وأشدِّها عقوبة، وقد حرَّم الله جلَّ جلاله الظُّلم في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيِّه الأمين ﷺ ، ومن يستعرض القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة يقف على مئات الآيات والأحاديث التي تحدَّثت عن الظُّلم والظَّالمين، وتوعدت الظَّلمة ولعنتهم،
عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ فيما رواه عن ربه.. وفيه: إن الله تعالى قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا».
قال النووي: قال العلماء: معناه تقدست عنه وتعاليت والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى كيف يجاوز سبحانه حداً ولي فوقه من يطيعه وكيف يتصرف في غير ملك والعالم كله في ملكه وسلطانه. وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا: أي لا تتظالموا والمراد لا يظلم بعضكم بعضاً وهذا توكيد لقوله: «يا عبادي وجعلته بينكم محرماً».
والظَّالم الذكي الحصيف، من يسارع بطلب العفو والمغفرة ممن ظلمهم، قبل فوات الأوان، والعضِّ على الأنامل والشِّفاه، فما يزال في الدُّنيا حيٌّ يرزق،

                           (٢)
القرآن الكريم آفة الظلم في آيات عديدة وقد تنوعت أسباب الظلم لذلك أطلق على معان كثيرة ظلماً، فالشرك ظلم، وكتم شهادة الحق ظلم، ومنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ظلم، والإعراض عن آيات الله بعد التذكير بها ظلم والكذب على الله لإضلال الناس ظلم، وهذا بيان نورده من خلال الآيات القرآنية التالية:
قال الله تعالى في سورة لقمان الآية:٣ : (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم).
وقال تعالى في سورة الأنعام الآية:٨٢ : (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: «لما نزلت (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق على أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله ﷺ :«ليس ذا إنما هو الشرك» ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم).
وقال تعالى في سورة البقرة الآية:١٤٠ : (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون).
وقال تعالى في سورة البقرة الآية:١١٤ : (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم).
وقال تعالى في سورة الكهف الآية:٧٥ : (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذن أبداً).
وقال تعالى في سورة الأنعام الآية:١٤٤ : (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين).
وقال تعالى في سورة النساء الآية:٣٠ : (ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً).
                             (٣)
وعاقبة الظلم عند الله شديدة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «يخلص المؤمنون يوم القيامة عن النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ليقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذبوا ونُقوا أُذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى إلى منزله من منزله كان في الدنيا فكان يقال ما يشبه بهم إلا أهل جمعة حين انصرفوا من جمعتهم».
فهذا وصف لحال الظالمين والمظلومين يوم القيامة وهو دعوة لكل مسلم أن يخلص رقبته أن يأتي اليوم الذي يندم فيه لما يرى من هول الموقف.
وعن طلحة بن عمرو : (فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم)        (الذاريات: ٥٩) ، قال: عذاباً مثل عذاب أصحابهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه لا أعلمه إلا رفعه قال: «أسرعوا بجنائزكم فإن كانت صالحة عجلتموها إلى الخير وإن كانت ظالمة استرحتم منها ووضعتموها عن رقابكم».
وعن ميمون بن مهران في قوله تبارك وتعالى: (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون) (إبراهيم: ٤٢) قال: «تعزية المظلوم ووعيد للظالم».
فأي إثم به ذاك ظالم أعظم من هذا الوعيد فهو سبحانه يمهل ولا يهمل وإن أخذه أليم شديد.
وقال ميمون بن مهران: «الظالم والمعين على الظلم والمحب له سواء» ، والظلم يحجب صاحبه من دخول الجنة حتى يرد ظلامة الناس ويستسمح منهم فلا ينبغي للمسلم أن يتهاون في حقوق الناس ولو نظرة فيها تنقيص أو لطمة فيها إهانة قد فعلها بغير حق فكل ذلك عند الله عظيم ويحول بينه وبين فاعله من الأجر وتنصب عليه لعنات الله عز وجل، قال رسول الله ﷺ : [يغفر للشهيدِ كلُّ ذنبٍ إلا الدَّين]، وقال ﷺ : [لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشَّاة الجلحاء من الشَّاة القرناء] ، وقال ﷺ : [إذا خلص المؤمنون من النَّار، حبسوا على قنطرة بين الجنَّة والنَّار، فيتقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدُّنيا]. وقال رسول الله ﷺ: [أتدرون من المفلس ؟.] قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال ﷺ :[إنَّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي وقد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته من قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثمَّ طرح في النَّار ]  "رواه مسلم".

                                (٤) 
حقوق الناس نوعان: مادية كالديون والمال المسروق والمغصوب ونحوها. ومعنوية كمن استغاب غيره أو شتمه وسبه وظلمه ونحوها.
فالحقوق المادية: لا تسقط إلا بردها إلى أصحابها، أو بالمسامحة منهم ، حتَّى لو كان شيئاً ليس له قيمة؛ فسيحاسب عليه العبد يوم القيامة ، أحياناً بعض النَّاس قد يتساهل في أمر المظالم في الأشياء التَّافهة، فأنت قد تستهين بالشَّيء وتمنع خيره غيرك، بغضِّ النَّظر عن أنَّك ستؤدِّيه يوم القيامة كما سنرى في بعض الأحاديث، قال لنا ﷺ : [قبل ألا يكون دينار ولا درهم] ،
ورأينا في حديث النَّبيِّ ﷺكيف أنَّه خطب النَّاس وقال: [من كنت ظلمته في عرضه أو ماله فليستقد] ، إذا كان النَّبيُّ ﷺ يقول هذا الشَّيء، وهو المغفور له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر؛ فغيره أولى أن يتحلَّل من النَّاس في شيء من عرض أو مال أو في الجسد أو غير ذلك، قبل أن يؤخذ منه حسنات يوم القيامة.
                            (٥)
وأما الحقوق المعنوية: فلا تسقط بمجرد التوبة عند جمهور الفقهاء إلا أن يتحللها من صاحبها، كما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [من كانت له مظلمةٌ لأخيه أو شيء فليتحلله قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عملٌ صالحٌ أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات، أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه]. "رواه البخاري" ، ومعنى فليتحلله أي ليسأله أن يجعله في حلٍ من قِبله، ومعناه: أن يقطع دعواه ويترك مظلمته. وقال الملا علي القاري: "(فليتحلله) أي فليطلب الظالم حل ما ذكر منه، أي من المظلوم... يقال تحللته واستحللته إذا سألته أن يجعلك في حل اليوم، أي في أيام الدنيا لمقابلته بقوله قبل أن لا يكون أي لا يوجد دينار ولا درهم، وهو تعبير عن يوم القيامة، وفي التعبير به تنبيه على أنه يجب عليه أن يتحلل منه، ولو ببذل الدينار والدرهم في بذل مظلمته، لأن أخذ الدينار والدرهم اليوم على التحلل، أهون من أخذ الحسنات أو وضع السيئات على تقدير عدم التحلل" * .
                              (٦)
ومن هدي رسول الله ﷺ في رد المظالم:
انه عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدِّل به القوم ، فمر بسواد بن غزيَّة حليف بني عدي بن النَّجار، وهو مستنتل من الصَّف، فطعنه رسول الله ﷺفي بطنه بالقدح، وقال: [استوِ يا سوادُ ] ، قال: يا رسول الله، أوجعتني، وقد بعثك الله بالحقِّ، فأقدني. قال: فكشف رسول الله ﷺ عن بطنه، ثمَّ قال: [استقد] ، قال: فاعتنقه وقبَّل بطنه. فقال: [ما حملك على هذا يا سواد؟.] ،  فقال:   يا رسول الله، حضر ما ترى فلم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك. فدعا له رسول الله بخير، وقال له خيراً .
ومن هدي الصحابة :
عن عائذ بن عمرو أنَّ أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدوِّ الله مأخذها، قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيِّدهم، فأتى النَّبيَّ ﷺ فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلَّك أغضبتهم! لئن كنت أغضبتهم؛ لقد أغضبت ربَّك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟. قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي.
                           (٧)
أقوال الفقهاء في التحلل من المظالم:
قال الشيخ ابن القيم: "إن كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته تقول اللهم اغفر لنا وله، ذكره البيهقي في الدعوات الكبير وقال في إسناده ضعف، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد وهما: هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب أم لا بد من إعلامه وتحليله؟ والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه بل يكفيه الاستغفار وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها"، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
والذين قالوا لا بد من إعلامه جعلوا الغيبة كالحقوق المالية، والفرق بينهما ظاهر فإن الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها وأن شاء تصدق بها، وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع، فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمي به، ولعله يهيج عداوته ولا يصفو له أبدًا، وما كان هذا سبيله فان الشارع الحكيم لا يبيحه ولا يجوزه فضلًا عن أن يوجبه ويأمر به ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها لا على تحصيلها وتكميلها والله تعالى أعلم. **. 
وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي: "وأما العرض فإن اغتبته أو شتمته، أو بهته فحقك أن تكذب نفسك بين يدي من فعلت ذلك عنده، وأن تستحل من صاحبه إن أمكنك هذا، إذا لم تخش زيادة غيظ وتهييج فتنة في إظهار ذلك وتجديده، فإن خشيت ذلك فالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك"  *** .
وخلاصة الأمر أن التوبة من التعدي على الحقوق المعنوية للناس ينبغي لها التحلل منهم لقوله ﷺ في الحديث المذكور سابقًا (فليتحلله) ولكن إذا خشي ترتب مفاسد على ذلك الاستحلال، فيكفي أن يستغفر لمن تعدى عليه، وخاصة إذا لم يعلم المعتدى عليه بالتعدي. **** .
الكلم الطيب....
روى مكحول عن أبي أمامة، رضى الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال :[ الناس كشجرة ذات جني ويوشك أن يُعُودُوا كشجرةٍ ذات شَوكٍ ، إن ناقدتهم ناقدوك ، وإن هربت منهم طلبوك، وإن تركتهم لم يتركوك ]، قيل: يا رسول الله وكيف المخرج؟ قال:[ أقْرِضْهُم من عِرْضِكَ ليوم فاقَتِك ] .
اللهم صلي وسلم على من بعثته رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
-----------------------------------
* الملا علي القاري: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - 14/439   .  
** ابن القيم :الكلم الطيب.
*** بن تيمية : الفتاوى الكبرى . 6/92-93.
**** تاريخ الفتوى: الجمعة 18- مارس- 2011.م. الأمين نقد الله . منقول

تعليقات

  1. مقال دسم ... وثري بالمعلومات التي يجب ان يتصرف علي هديها عامة الناس. واولي الامر ...

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سيرة ذاتية مختلفة عن الدكتورة مريم الصادق المهدي

سيرة ذاتية للاعلامية نيكول تنورى

الصاج لعمل الكسرة السودانية